الثلاثاء، ٢٦ فبراير ٢٠٠٨

عودة المعلم يعقوب


المعلم يعقوب ليس شخصية غامضة في تاريخ مصر ، بل هو شخصية واضحة تمام الوضوح ، ولكن له أحفاد أرادوا أن يضفوا عليه بعضا من الغموض حتى يتعتعوا جبل الحقيقة عن جثته البالية في مقبرة سان مرتان في مرسيليا - كما زعموا - ويقيموا منها نصبًا تذكاريًا للبطولة والوطنية .
وحكاية المعلم يعقوب بسيطة وواضحة منذ بدايتها إلى نهايتها ، فالرجل واضح في خيانته للشعب المصري من بدايته ، فقد كان مجرد سوط في يد سليمان أغا التابع لمراد بك ، مجرد سوط يلهب ظهور بني وطنه ليجمع الضرائب والإتاوات لأسياده الأغوات والبكوات ، ولا بأس أن يحتفظ لنفسه بجزء من الغنيمة كما يحتفظ كلب الصيد لنفسه بقطعة من لحم الفريسة ، وحتى الذين دافعوا عنه بدافع العصبية الطائفية أو العمالة لقوى أجنبية لم يستطيعوا أن ينفوا عنه خدمته للأغوات في مص دم الشعب المصري وشق جيوبه لتحصيل الضرائب لهم – ما أشبه الليلة بالبارحة – فليس هناك غموض في هذه المرحلة من حياته وليس له أي موقف يدل على أي وطنية إلا أن تكون كلمة الوطنية منسوبة للحزب إياه وليس للوطن .
وهذه المرحلة غير الوطنية من حياته ليست بالمرحلة القصيرة فهي تمتد 53 عاما بالتمام والكمال منذ مولده عام 1745م إلى وصول الحملة الفرنسية إلى مصر سنة 1798م ، فهل تحولت حياته من النقيض إلى النقيض فجأة بعد وصول الحملة الفرنسية ، أبدًا ، كل الذي حدث أنه استبدل سيدًا بسيد ، ولكنه لم يستبدل الضحية ، فظل الشعب المصري هو ضحيته ، وظلت الدماء المصرية تروي أنيابه لينتزع منه مزيد من النقود لأجل سيده الجديد ، فانضم المعلم يعقوب إلى الفرنسيين ووطد علاقته بالجنرال ديزيه ، وأصبح المسئول عن تموين وإمداد الحملة الفرنسية وإطعام 30 ألف جندي فرنسي بالاقتطاع من أرزاق المصريين وأقواتهم ، ثم انطلق إلى الصعيد – بحكم خبرته به لأنه من مواليد ملوي بالمنيا – انطلق بصحبة ديزيه مجرد جاسوس يدل على عورات المصريين ، ويدبر أخبث الحيل في استخلاص أموالهم ومصادرتها ، ولا ينبغي أن ننسى أن ديزيه هذا هو الي أحرق قرى كاملة بأهلها في الصعيد لمّا وجد المقاومة من أهلها ، فكانت المكافأة له بأن تم ترقيته إلى رتبة جنرال بالجيش لفرنسي ليصبح أول جنرال أجنبي بذلك الجيش ، ثم جمع كتيبة من أقاربه وأعوانه يقل عددها عن الألف أو الألفين على أكبر تقدير ، وراح يشن الحملات على المصريين بهذه الكتيبة ، وحول بيته إلى قلعة حصينة كان لها دورًا كبيرا في القضاء على ثورة القاهرة الأولى والثانية ، فخيانة الرجل لمصر غير خافية وولائه لا لبث فيه ، وقد يظن البعض أنه كان يمارس هذه الخيانة على مسلمي مصر فقط بحكم كونه قبطي ، ولكن الحقيقة التاريخية أنه كان خائنًا للأقباط أنفسهم ، فلم يكن رجال الدين الأقباط راضين عنه بل لقد صدر ضده قرار حرمان من بطريرك الأقباط في عهده ، كما أنه ارتكب جريمة دينية أخرى وهو أنه تزوج بامرأة من غير مذهبه مخالفًا كنيسته ، ووصلت به الخيانة إلى حد الدخول إلى الكنيسة راكبًا جواده شاهرًا سيفه ، وكأنه يقتدي بسيدة الفرنسي الذي دخل الأزهر بخيوله .
لكن نهايته كانت أكثر وضوحًا واشد دلالة على عمالته للمحتل وخيانته لوطنه بل وخيانته لأبناء طائفته ، فقد علم أنه لا بقاء له في مصر بعد رحيل الفرنسيين عنها فآثر الرحيل معهم وقرر الرحيل مصطحبًا معه جيشه الصغير من عسكر القبط لكن نساءهم وأهلهم اجتمعوا وذهبوا إلى قائمقام وبكوا وولولوا وترجوه فى إبقائهم عند عيالهم وأولادهم فإنهم فقراء وأصحاب صنائع فهم ما بين نجار وبناء وصانع وغير ذلك فوعدهم أن يرسل إلى يعقوب أن لا يقهر (يغصب) منهم من لا يريد السفر والذهاب معه ، وهذا يقطع كل ظنٍ في أن يكون الرجل قد أفاد طائفته ، فلم تكن أحوالهم المادية تختلف عن أحوال سائر المصريين ، فالأمر لا يعدو أن يكون مجرد استغلال لبعض البسطاء من أبناء طائفته في تحقيق مصالح شخصية على حساب أبناء وطنه بل على أشلائهم .
وركب يعقوب ومن بقي من أتباعه البارجة الإنجليزية بالاس للخروج من مصر‏,‏ لتكتمل رحلة خيانته بموته إثر إسهال حاد في اليوم السادس للرحلة ‏(16‏ أغسطس‏1801م)‏ فيعبئه البحارة في برميل خمر ويلقونه في البحر طبقًا لأقرب الروايات انسجامًا مع تقاليد البحرية في ذلك الزمن ، أو تحمله معها في برميل الخمر ليدفن في مرسيليا - بناءًا على وصيته - إلى جوار صديقه ديزيه قاتل المصريين .
فهكذا كانت الخيانة للوطن عنوان حياته من مبدأه إلى منتهاه ، بل رافقته إلى مثواه الأخير .
ولكن هذا الرجل الخائن تحول بفعل السحر على يد بعض أتباع واذناب الاحتلال الإنجليزي إلى " صاحب مشروع وطني في الاستقلال " مع أن الرجل نفسه لم يخطر على باله فكرة الاستقلال ولا درى عنها شيئًا ولم يكن يحلم إلا بالتمرغ في وحل أسياده المحتلين لتدوم له دنانيره التي اقتطعها من لحم المصريين .
ولكن العجيب أن يتخذ الرجل رمزًا للوطنية من قِبَل بعض أقباط المهجر ، في حين يتهمون بالغفلة زعماء أقباط حقيقيين من أمثال رفقاء سعد زغلول وأمثال مكرم عبيد ، بل وصلت الصفاقة بأحدهم - ويدعى موريس صادق - أن يكتب عن "الإنجازات العظيمة" لبريطانيا إبان احتلالها لمصر خلال الفترة ما بين عامي 1882م إلى 1954م . ثم تجرأ ذلك المتباكي على انتهاء الاحتلال على قيادة حملة إساءة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، يتباكى فيها على قتل اليهود الخونة الذين تآمروا على حياته صلى الله عليه وسلم وحياة الأمة الإسلامية كلها حتى كادت أن تمحى من الوجود ، جراء خيانتهم ونقضهم لعهدهم الذي أعطوه لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
قد ينخدع بعض البسطاء من أقباط الداخل ، بهذا المحامي الأمريكي من أصل مصري – كما يقولون – ويظنون أنه يسعى لمصلحتهم ، ولكن عليهم أن يتذكروا الدرس التاريخي من الجنرال يعقوب بأن العمالة للأجنبي على حساب الوطن عاقبتها وخيمة ، والأهم من ذلك التأكد أن العملاء لا يسعون إلا لمصلحة أنفسهم جريًا وراء التبرعات والهبات الدولارية بزعم الإنفاق على أنشطة إنسانية ، أما الغلابة من أبناء الوطن من المسلمين والمسيحين جميعًا فهم الخاسر الوحيد ، لأن آخر خدمة الغز علقة وآخر خدمة الأمريكان ديمقراطية على طريقة أبو غريب .